الإيثار: قيمة إسلامية تُزهر بالعطاء وتُحيي القلوب

المقدمة

الحمد لله الذي جعل العطاء سببًا للبركة، والإيثار طريقًا للفلاح، وكتب السعادة للمتصدقين، وجعل التضحية لأجل الغير شرفًا عظيمًا. أحمده سبحانه وتعالى وأشكره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه الطاهرين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

أيها الأحبة الكرام.. حديثنا اليوم عن خُلق عظيم ومرتبة عالية من مراتب الإيمان، خلقٍ يُطهّر القلب من الأثرة، ويزرع في النفوس الرحمة، ويُخرج المرء من دائرة الأنانية إلى سعة العطاء. حديثنا عن الإيثار؛ ذاك الخلق الذي مدحه الله في كتابه، وأثنى به على عباده الصالحين، وجسّده نبينا الكريم ﷺ وأصحابه الكرام في حياتهم وسلوكهم.

﴿وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ الحشر: 9

 

الإيثار: أسمى معاني العطاء وأجمل صور التضحية في الإسلام

الإيثار في القرآن الكريم

لقد رفع القرآن الكريم من قيمة الإيثار حتى جعله عنوانًا للفلاح، ومقياسًا لطهارة النفس. تأملوا قول الله تعالى:

﴿لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ﴾ آل عمران: 92

فالبرّ لا يُنال إلا حين يتجاوز الإنسان نفسه، فيقدّم للآخرين أحب ما يملك. وهذا هو جوهر الإيثار: أن تضحي بما تحب من أجل إسعاد غيرك، لا بما تستغني عنه أو تزدريه.

وقد جسّد الأنصار هذا الخلق بأبهى صوره، حين استقبلوا المهاجرين الفقراء، فقاسموهم الدور والأموال، حتى قال فيهم الله سبحانه: ﴿وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ﴾.

الإيثار في السنة النبوية

جاءت السنة النبوية لتؤكد أن الإيثار دليل على صدق الإيمان. قال النبي ﷺ:

«لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه» رواه البخاري ومسلم

وهذا الحديث يجعل الإيثار ليس خلقًا تكميليًا، بل جزءًا من كمال الإيمان. فلا يكتمل إيمان عبد حتى يقدم الخير لغيره كما يحبه لنفسه.

وقال رسول الله ﷺ أيضًا:

«من كان معه فضل ظهر فليعد به على من لا ظهر له، ومن كان له فضل من زاد فليعد به على من لا زاد له» رواه مسلم

إنها دعوة واضحة لبذل الفضل والزيادة، بل أحيانًا بذل ما نحتاجه نحن، إذا كان أخونا أشد حاجة إليه.

نماذج من إيثار الصحابة

الأنصار والمهاجرون

ما أعظم ما فعل الأنصار مع المهاجرين، فقد فتحوا لهم بيوتهم وقلوبهم، وقاسموهم الأموال، حتى إن سعد بن الربيع عرض على عبد الرحمن بن عوف نصف ماله وزوجاته، فقال له عبد الرحمن: "بارك الله لك في أهلك ومالك، دلني على السوق". فأيُّ إيثار أعظم من هذا؟

قصة الضيف والأنصاري

ومن صور الإيثار العجيبة، ما رواه البخاري ومسلم أن رجلًا جاء إلى النبي ﷺ يطلب الطعام، فأرسل إلى بيوت أزواجه فلم يجد إلا الماء، فقال: «من يضيف هذا الليلة يرحمه الله؟»، فقام رجل من الأنصار مع زوجته، وأطعما الضيف طعامهم، وأطفأوا السراج إيثارًا له على أنفسهم وأولادهم. فلما أصبحوا قال النبي ﷺ: «لقد عجب الله من صنيعكما الليلة».

أبو بكر الصديق رضي الله عنه

ومن أعظم صور الإيثار ما فعله الصديق أبو بكر رضي الله عنه يوم جاء بماله كله في سبيل الله، فسأله النبي ﷺ: «ما أبقيت لأهلك؟»، فقال: "أبقيت لهم الله ورسوله". هكذا يكون الإيثار من أجل رضا الله تعالى.

ثمار الإيثار في حياتنا

الإيثار ليس مجرد قصة تُحكى أو قيمة نتغنى بها، بل هو طريق يثمر سعادة في الدنيا ورضا في الآخرة.

  • على مستوى الفرد: يطهّر القلب من الأنانية، ويقرب العبد من الله، ويزرع الطمأنينة والرضا.
  • على مستوى المجتمع: يقوي روابط الأخوة، ويعالج الفقر، ويبني مجتمعًا متماسكًا متحابًا.
﴿وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ الحشر: 9

كيف نربي أنفسنا على الإيثار؟

  • أن نتذكر دائمًا أن ما عند الله خير وأبقى، فلا نبخل بما في أيدينا.
  • أن نتدرب على مشاركة ما نحب، لا ما نستغني عنه.
  • أن نقدم وقتنا وجهدنا في خدمة الآخرين، فهذا من الإيثار.
  • أن نُعلم أبناءنا قيمة الإيثار عبر مواقف عملية، كالمشاركة في الطعام واللعب والصدقة.
  • أن نمارس الصدقة الخفية، فهي تربي القلب على البذل والإخلاص.

الخاتمة

أيها الأحبة في الله.. الإيثار ليس خلقًا عابرًا، بل عبادة عظيمة، وهو دليل على صفاء القلب ورسوخ الإيمان. به تُبنى المجتمعات، وتزول الضغائن، ويحلّ الحب محل الأنانية، وتتحول الأمة إلى جسد واحد.

فلنحرص جميعًا على أن نكون من أهل الإيثار، لننال رضا الله ومحبة الناس، ولنكون لبنات خير في بناء مجتمع تسوده الرحمة والإحسان.

اللهم ارزقنا قلوبًا سخية، ونفوسًا مطمئنة، وأيدٍ معطاءة، ووفّقنا لأن نؤثر غيرنا على أنفسنا ابتغاء مرضاتك، واجعلنا من عبادك المفلحين.